كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى: أنه سبحانه يسوق السحاب سوقًا رقيقًا إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} أي: بين أجزائه، فيضم بعضه إلى بعض، ويجمعه بعد تفرّقه ليقوى، ويتصل، ويكثف، والأصل في التأليف الهمز.
وقرأ ورش، وقالون عن نافع {يولف} بالواو تخفيفًا، والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، ولهذا دخلت بين عليه لأن أجزاءه في حكم المفردات له.
قال الفراء: إن الضمير في {بينه} راجع إلى جملة السحاب، كما تقول: الشجر قد جلست بينه، لأنه جمع، وأفرد الضمير باعتبار اللفظ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي: متراكمًا يركب بعضه بعضًا.
والركم: جمع الشيء، يقال: ركم الشيء يركمه ركمًا أي: جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء، وتراكم إذا اجتمع.
والركمة: الطين المجموع، والركام: الرمل المتراكب {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} الودق: المطر عند جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

وقال امرؤ القيس:
فدمعهما ودق وسح وديمة ** وسكب وتوكاف وتنهملان

يقال: ودقت السحاب فهي: وادقة، وودق المطر يدق أي: قطر يقطر، وقيل: إن الودق البرق، ومنه قول الشاعر:
أثرن عجاجة وخرجن منها ** خروج الودق من خلل السحاب

والأوّل أولى.
ومعنى {مِنْ خِلاَلِهِ}: من فتوقه التي هي مخارج القطر، وجملة: {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} في محل نصب على الحال، لأن الرؤية هنا هي البصرية.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية {من خلله} على الإفراد.
وقد وقع الخلاف في خلال: هل هو مفرد كحجاب؟ أو جمع كجبال؟ {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} المراد بقوله: من سماء: من عال، لأن السماء قد تطلق على جهة العلوّ، ومعنى {من جبال}: من قطع عظام تشبه الجبال، ولفظ {فيها} في محل نصب على الحال، و{من} في {من برد} للتبعيض، وهو مفعول ينزل.
وقيل: إن المفعول محذوف، والتقدير: ينزل من جبال فيها من برد بردًا.
وقيل: إن من في {من برد} زائدة، والتقدير: ينزل من السماء من جبال فيها برد.
وقيل: إن في الكلام مضافًا محذوفًا أي: ينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من برد إلى الأرض.
قال الأخفش: إن من في {من جبال} وفي: {من برد} زائدة في الموضعين، والجبال والبرد في موضع نصب أي: ينزل من السماء بردًا يكون كالجبال.
والحاصل: أن {من} في {من السماء} لابتداء الغاية بلا خلاف، و{من} في {من جبال} فيها ثلاثة أوجه: الأوّل لابتداء الغاية، فتكون هي ومجرورها بدلًا من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال.
الثاني: أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال، كأنه قال: وينزل بعض جبال.
الثالث: أنها زائدة أي: ينزل من السماء جبالًا.
وأما {من} في {من برد} ففيها أربعة أوجه: الثلاثة المتقدّمة.
والرابع: أنها لبيان الجنس، فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد.
قال الزجاج: معنى الآية: وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد أي: خاتم حديد في يدي، لأنك إذا قلت: هذا خاتم من حديد، وخاتم حديد كان المعنى واحدًا. انتهى.
وعلى هذا يكون {من برد} في موضع جرّ صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم، ويكون مفعول ينزل {من جبال} ويلزم من كون الجبال بردًا أن يكون المنزل بردًا.
وذكر أبو البقاء: أن التقدير: شيئًا من جبال، فحذف الموصوف، واكتفى بالصفة {فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء} أي: يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} منهم، أو يصيب به مال من يشاء، ويصرفه عن مال من يشاء، وقد تقدّم الكلام عن مثل هذا في البقرة.
{يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} السنا: الضوء، أي: يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدّة بريقه، وزيادة لمعانه، وهو كقوله: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم} [البقرة: 20] قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها ** ليبصر ضوءها إلاّ البصير

وقال امرؤ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب ** أمال السليط في الذبال المفتل

فالسنا بالقصر: ضوء البرق، وبالمدّ: الرفعة، كذا قال المبرّد، وغيره.
وقرأ طلحة بن مصرف، ويحيى ابن وثاب {سناء برقه} بالمدّ على المبالغة في شدّة الضوء، والصفاء، فأطلق عليه اسم: الرفعة، والشرف.
وقرأ طلحة، ويحيى أيضًا بضم الباء من برقه، وفتح الراء.
قال أحمد بن يحيى ثعلب: وهي على هذه القراءة جمع برق.
وقال النحاس: البرقة المقدار من البرق، والبرقة الواحدة.
وقرأ الجحدري، وابن القعقاع: {يذهب} بضم الياء، وكسر الهاء من الإذهاب.
وقرأ الباقون {سنا} بالقصر و{بَرْقه} بفتح الباء، وسكون الراء، و{يَذْهَبُ} بفتح الياء والهاء من الذهاب، وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم.
ومعنى ذهاب البرق بالأبصار: خطفه إياها من شدّة الإضاءة، وزيادة البريق، والباء في {بالأبصار} على قراءة الجمهور للإلصاق، وعلى قراءة غيرهم زائدة.
{يُقَلّبُ الله اليل والنهار} أي: يعاقب بينهما، وقيل يزيد في أحدهما، وينقص الآخر، وقيل: يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشرّ، ونفع وضرّ، وقيل: بالحرّ والبرد، وقيل: المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرّة، وبضوء الشمس أخرى، وتغيير الليل بظلمة السحاب تارة، وبضوء القمر أخرى، والإشارة بقوله: {إِنَّ في ذلك لَعِبْرَةً لأوْلِى الأبصار} إلى ما تقدّم، ومعنى العبرة: الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار، والمراد بأولي الأبصار: كل من له بصر يبصر به.
ثم ذكر سبحانه دليلًا ثالثًا من عجائب خلق الحيوان، وبديع صنعته، فقال {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء} قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي {والله خالق كل دابة} وقرأ الباقون: {خلق} والمعنيان صحيحان، والدابة: كلّ ما دب على الأرض من الحيوان، يقال: دبّ يدبّ، فهو: دابّ، والهاء للمبالغة، ومعنى {مِن مَّاء} من نطفة، وهي المنيّ، كذا قال الجمهور.
وقال جماعة: إن المراد الماء المعروف، لأن آدم خلق من الماء، والطين.
وقيل: في الآية تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الأوّل، لأن في الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة، ويخرج من هذا العموم الملائكة، فإنهم خلقوا من نور، والجانّ، فإنهم خلقوا من نار.
ثم فصل سبحانه أحوال كلّ دابة، فقال: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} وهي الحيات والحوت والدود ونحو ذلك {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ} الإنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} سائر الحيوانات، ولم يتعرّض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته، وقيل: لأن المشي على أربع فقط، وإن كانت القوائم كثيرة، وقيل: لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه لهذا، فإن المراد التنبيه على بديع الصنع، وكمال القدرة، فكيف يقال: لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع؟ وقيل: ليس في القرآن ما يدلّ على عدم المشي على أكثر من أربع، لأنه لم ينف ذلك، ولا جاء بما يقتضي الحصر، وفي مصحف أبيّ: {ومنهم من يمشي على أكثر} فعمّ بهذه الزيادة جميع ما يمشي على أكثر من أربع، كالسرطان والعناكب وكثير من خشاش الأرض {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} مما ذكره هاهنا، ومما لم يذكره، كالجمادات مركبها وبسيطها، ناميها وغير ناميها {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء بل الكلّ من مخلوقاته داخل تحت قدرته سبحانه.
{لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات} أي: القرآن، فإنه قد اشتمل على بيان كلّ شيء، وما فرّطنا في الكتاب من شيء، وقد تقدّم بيان مثل هذا في غير موضع {والله يَهْدِي مَن يَشَاء} بتوفيقه للنظر الصحيح، وإرشاده إلى التأمل الصادق {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} إلى طريق مستوي لا عوج فيه، فيتوصل بذلك إلى الخير التام، وهو نعيم الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ} قال: هو مثل ضربه الله كرجل عطش، فاشتد عطشه، فرأى سرابًا، فحسبه ماء، فطلبه، فظن أنه قدر عليه حتى أتى، فلما أتاه لم يجده شيئًا، وقبض عند ذلك، يقول: الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد عمله يغني عنه شيئًا، ولا ينفعه إلاّ كما نفع السراب العطشان {أَوْ كظلمات فِي بَحْرٍ لُّجّىّ} قال: يعني بالظلمات: الأعمال، وبالبحر اللجيّ: قلب الإنسان {يغشاه مَوْجٌ} يعني بذلك: الغشاوة التي على القلب، والسمع والبصر.
وأخرج ابن جرير عنه {بِقِيعَةٍ}: بأرض مستوية.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم مِن طريق السديّ، عن أبيه، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردًا عطاشًا، فيقولون: أين الماء؟ فيتمثل لهم السراب، فيحسبونه ماء، فينطلقون إليه، فيجدون الله عنده، فيوفيهم حسابه، والله سريع الحساب» وفي إسناده السديّ عن أبيه، وفيه مقال معروف.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة في قوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} قال: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {والطير صافات} قال: بسط أجنحتهن.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} يقول: ضوء برقه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال: كل شيء يمشي على أربع إلاّ الإنسان.
وأقول: هذه الطيور على اختلاف أنواعها تمشي على رجلين، وهكذا غيرها، كالنعامة، فإنها تمشي على رجلين، وليست من الطير، فهذه الكلية المروية عنه رضي الله عنه لا تصحّ. اهـ.